- مرحلة التوسع والانتشار:
وتعد من أهم مراحل الماتريدية ، حيث
بلغت أوجَ توسعها وانتشارها في هذه المرحلة ؛ وما ذلك إلا لمناصرة سلاطين الدولة
العثمانية ، فكان سلطان الماتريدية يتسع حسب اتساع سلطان الدولة العثمانية ،
فانتشرت في: شرق الأرض، وغربها، وبلاد العرب ، والعجم ، والهند ، والترك، وفارس ،
والروم .
وبرز فيها محققون كبار ، أمثال: الكمال بن الهمام .
انتشرت الماتريدية ، وكثر أتباعها في بلاد الهند وما جاورها من البلاد الشرقية : كالصين ، وبنجلاديش ، وباكستان ، وأفغانستان ، كما انتشرت في بلاد تركيا، والروم ، وفارس ، وبلاد ما وراء النهر، وما زال لهم وجود قوي في هذه البلاد .
ثانيا : أوجه الخلاف بينهم وبين أهل السنة :
- قسّم الماتريدية أصول الدين حسب
التلقي إلى:
ـ الإلهيات [العقليات] : وهي ما يستقل
العقل بإثباتها والنقل تابع له ، وتشمل أبواب التوحيد والصفات.
ـ الشرعيات [السمعيات] : وهي الأمور التي يجزم العقل بإمكانها ، لكن لا طريق للعقل إلى الحكم بثبوتها ، أو امتناعها ؛ مثل: النبوات، وعذاب القبر، وأمور الآخرة ، علما بأن بعضهم جعل النبوات من قبيل العقليات .
ولا يخفي ما في هذا من مخالفة لمنهج
أهل السنة والجماعة ؛ حيث إن القرآن والسنة وإجماع الصحابة : هي مصادر التلقي
عندهم ، وسواء في ذلك عامة مسائل الدين .
فضلاُ عن مخالفتهم في بدعة تقسيم أصول
الدين إلى: عقليات وسمعيات، والتي قامت على فكرة باطلة : وهي أن أمور الدين
والعقائد تنقسم إلى أصول تدرك عقلا ، ولا مجال للسمع في إثباتها أًصالة ، وإنما هو
عاضد لما يدل عليه الدليل العقلي فيها ، وأصول تدرك بالسمع ، ولا مجال للعقل فيها
أصالة .
- تحدث الماتريدية ، شأن غيرهم من الفرق الكلامية : المعتزلة والأشعرية ، عن وجوب معرفة الله تعالى بالعقل قبل ورود السمع ، واعتبروه أول واجب على المكلف، ولا يعذر بتركه ذلك ، بل يعاقب عليه ، ولو قبل بعثة الأنبياء والرسل ، وبهذا وافقوا قول المعتزلة .
وهو قول ظاهر البطلان ، تعارضه الأدلة من الكتاب والسنة التي تبين أن الثواب والعقاب إنما يكون بعد ورود الشرع، كما قال الله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) الإسراء/15 .
هذا مع أن الصواب في أول واجب على العباد : إنما هو توحيده سبحانه وتعالى ، والدخول في دينه ، لا أصل المعرفة التي ركزها الله في فطر عامة خلقه .
- مفهوم التوحيد عند الماتريدية هو:
إثبات أن الله تعالى واحد في ذاته، لا قسيم له ، ولا جزء له، واحد في صفاته ، لا
شبيه له ، واحد في أفعاله ، لا يشاركه أحد في إيجاد المصنوعات ، ولذلك بذلوا غاية
جهدهم في إثبات هذا النوع من التوحيد ، باعتبار أن الإله عندهم هو: القادر على
الاختراع ، مستخدمين في ذلك الأدلة والمقاييس العقلية والفلسفية التي أحدثها
المعتزلة والجهمية ، مثل دليل حدوث الجواهر والأعراض ، وهي أدلة طعن فيها السلف
والأئمة وأتباعهم ، وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن أصح
.
- قالوا بإثبات ثمان صفاتٍ لله تعالى
فقط ، على خلاف بينهم في بعض التفصيل ، وهي: الحياة، القدرة ، العلم، الإرادة ،
السمع ، البصر ، الكلام ، التكوين .
أما ما عدا ذلك من الصفات التي دل عليها الكتاب والسنة [الصفات الخبرية] من صفات ذاتية، أو صفات فعلية ، فإنها لا تدخل في نطاق العقل ، ولذلك قالوا بنفيها جميعاً ، وتأويل النصوص الشرعية الدالة عليها
أما أهل السنة والجماعة فهم كما
يعتقدون في الأسماء : يعتقدون في الصفات وأنها جميعاً توقيفية ، ويقولون بإثبات ما
دلت عليه النصوص ، بلا تشبيه ، ونزهوا الله عن صفات النقص ، أو مماثلة المخلوقين ،
من غير تعطيل لشيء من أسمائه أو صفاته ، مع تفويض الكيفية ، وإثبات المعنى اللائق
بالله تعالى ، لقوله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ ) الشورى/11.
- قولهم بأن كلام الله على الحقيقة :
إنما يعنون به كلامه النفسي القائم به سبحانه ، الذي لا يسمعه العباد ؛ وأما ما
يسمع فهو "عبارة" عن الصفة النفسية القديمة ، وليس هو حقيقتها !! ولذلك
: لم يمتنع عندهم أن يكون ما هو مكتوب في أيدي الناس في المصاحف : مخلوقا ، فعاد
أمرهم إلى قول المعتزلة ، الذي خالفوا فيه أجماع الأئمة ، وتواتر النقل عن أئمة
الدين ببطلانه ، بل وتكفير قائله !!
- تقول الماتريدية في الإيمان : إنه
التصديق بالقلب فقط ، وأضاف بعضهم الإقرار باللسان، ومنعوا زيادته ونقصانه ،
وقالوا بتحريم الاستثناء فيه ، وأن الإسلام والإيمان مترادفان ، لا فرق بينهما،
فوافقوا المرجئة في ذلك ، وخالفوا أهل السنة والجماعة ، حيث إن الإيمان عندهم:
اعتقاد بالجنان ، وقول باللسان ، وعمل بالأركان ، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
- أثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة ؛ ولكن مع نفي الجهة والمقابلة ، وهذا قول متناقض ، يثبت الشيء ، ثم يعود فينفي حقيقته .
وللاستزادة حول ذلك الموضوع ، ينظر :
- "الموسوعة الميسرة في الأديان
والمذاهب والأحزاب المعاصرة" (1/ 95-106) .
- "الماتريدية" ، رسالة
ماجستير، أحمد بن عوض الله اللهيبي الحربي.
- "الماتريدية وموقفهم من توحيد
الأسماء والصفات" ، رسالة ماجستير، لشمس الأفغاني السلفي.
- "منهج الماتريدية في
العقيدة" د. محمد بن عبد الرحمن الخميس .
- "الاستقامة" شيخ الإسلام
ابن تيمية .
- "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين"
(3/ 307-308) .
ثالثا : لا يقال عن متبع عقيدة الماتريدية : إنه سيدخل الجنة ، ولا سيدخل النار ، بل هم من عامة المسلمين كغيرهم ، وإن كانوا قد قالوا بمقالات مبتدعة ، لكن بدعتهم ليست مكفرة ، فهم ، في سائر أحوالهم ، كغيرهم من المسلمين : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) النساء/123-124 .
وحالهم في بدعتهم ، بحسب أفرادهم ،
متفاوت : فمنهم من تأول ، أو اجتهد اجتهادا يعذر في مثله ، ومنهم من هو مخطئ خطأ
يؤاخذ على مثله ، ثم هو في مشيئة الله : إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
، وقد ذكر طائفة من أئمة الأشعرية :
" ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له
في الإسلام مساع مشكورة ، وحسنات مبرورة ، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد
والبدع ، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين : ما لا يخفى على من عرف أحوالهم ،
وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف .
لكن لما التبس عليهم هذا لأصل المأخوذ
ابتداء عن المعتزلة ، وهم فضلاء عقلاء : احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه ، فلزمهم
بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين
.
وصار الناس بسبب ذلك :
منهم من يعظمهم ، لما لهم من المحاسن
والفضائل .
ومنهم من يذمهم ، لما وقع في كلامهم
من البدع والباطل .
وخيار الأمور أوساطها .
وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء ، بل مثل هذا
وقع لطوائف من أهل العلم والدين ، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين
الحسنات ، ويتجاوز لهم عن السيئات : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [الحشر/10] .
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق
والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخطأ في بعض ذلك : فالله يغفر له خطأه
، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: ربنا لا تؤاخذنا
إن نسينا أو أخطأنا (البقرة: 286) .
ومن اتبع ظنه وهواه ، فأخذ يشنع على من خالفه ، بما وقع فيه من خطأ ظنه صواباً بعد اجتهاده ، وهو من البدع المخالفة للسنة : فإنه يلزمه نظير ذلك ، أو أعظم ، أو أصغر ، فيمن يعظمه هو من أصحابه ، فقل من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين، لكثرة الاشتباه والاضطراب ، وبعد الناس عن نور النبوة ، وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب ، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب .." انتهى "درء تعارض العقل والنقل" (2/102-103) . والله تعالى أعلم .
Комментариев нет:
Отправить комментарий